فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وترى الأرض بارزة} وقرأ عمرو بن العاص، وابن السميفع، وأبو العالية: {وتُرى الأرضُ بارزةً} برفع التاء والضاد.
وقرأ أبو رجاء العطاردي كذلك، إِلا أنه فتح ضاد {الأرضَ}.
وفي معنى {بارزة} قولان.
أحدهما: ظاهرة فليس عليها شيء من جبل أو شجر أو بناءٍ، قاله الأكثرون.
والثاني: بارزًا أهلها من بطنها، قاله الفراء.
قوله تعالى: {وحشرناهم} يعني المؤمنين والكافرين {فلم نُغادِر} قال ابن قتيبة: أي: فلم نُخَلِّف، يقال: غادرتُ كذا: إِذا خلّفته، ومنه سمي الغَدِير، لأنه ماءٌ تُخَلِّفُه السيول.
وروى أبان: {فلم تغادر} بالتاء.
قوله تعالى: {وعُرضوا على ربك صفًا} إِن قيل: هذا أمر مستقبل، فكيف عُبِّر عنه بالماضي؟ فالجواب: أن ما قد علم الله وقوعه، يجري مجرى المعايَن، كقوله: {ونادى أصحاب الجنة} [الأعرف: 43].
وفي معنى قوله: {صفًا} أربعة أقوال.
أحدها: أنه بمعنى: جميعًا، كقوله: {ثم ائتوا صفًا} [طه: 64]، قاله مقاتل.
والثاني: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك مصفوفين، هذا مذهب البَصريين.
والثالث: أن المعنى: وعُرضوا على ربِّك صفوفًا، فناب الواحد عن الجميع، كقوله: {ثم نُخْرِجُكم طفلًا} [الحج: 5].
والرابع: أنه لم يَغِبْ عن الله منهم أحد، فكانوا كالصف الذي تسهل الإِحاطة بجملته، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
وقد قيل: إِن كلَّ أمة وزمرة صفٌّ.
قوله تعالى: {لقد جئتمونا}، فيه إِضمار فيقال لهم.
وفي المخاطبين بهذا قولان.
أحدهما: أنهم الكُلّ.
والثاني: الكُفار، فيكون اللفظ عامًّا، والمعنى خاصًّا.
وقوله: {كما خلقناكم أول مَرَّة} مفسر في [الأنعام: 94].
وقوله: {بل زعمتم} خطاب الكفار خاصة، والمعنى: زعمتم في الدنيا {أن لن نجعل لكم موعدًا} للبعث، والجزاء.
قوله تعالى: {ووُضع الكتاب} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الكتاب الذي سُطِر فيه ما تعمل الخلائق قبل وجودهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الحساب، قاله ابن السائب.
والثالث: كتاب الأعمال، قاله مقاتل.
وقال ابن جرير: وُضع كتاب أعمال العباد في أيديهم، فعلى هذا، الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: {فترى المجرمين} قال مجاهد: هم الكافرون.
وذكر بعض أهل العلم أن كل مجرم ذُكر في القرآن، فالمراد به: الكافر.
قوله تعالى: {مشفقين} أي: خائفين {مما فيه} من الأعمال السيئة {ويقولون يا ويلتنا} هذا قول كل واقع في هَلَكة.
وقد شرحنا هذا المعنى في قوله: {يا حسرتنا} [الأنعام: 31].
قوله تعالى: {لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرة إِلا أحصاها} هذا على ظاهره في صغير الأمور وكبيرها؛ وقد روى عكرمة عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة.
وقد يُتوهَّم أن المراد بذلك صغائر الذنوب وكبائرها، وليس كذلك، إِذ ليس الضحك والتبسم، مجرَّدهما من الذنوب، وإِنما المراد أن التبسم من صغار الأفعال، والضحك فعل كبير، وقد روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الصغيرة: التبسم والاستهزاء بالمؤمنين، والكبيرة: القهقهة بذلك؛ فعلى هذا يكون ذنبًا من الذنوب لمقصود فاعله، لا لنفسه.
ومعنى {أحصاها}: عدَّها وأثبتها، والمعنى: وُجدتْ مُحصاةً.
{ووجدوا ما عملوا حاضرًا} أي: مكتوبًا مُثْبَتًا في الكتاب، وقيل: رأوا جزاءه حاضرًا.
وقال أبو سليمان: الصحيح عند المحققين أن صغائر المؤمنين الذين وُعدوا العفو عنها إِذا اجتنبوا الكبائر، إِنما يعفى عنها في الآخرة بعد أن يراها صاحبها.
قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدًا} قال أبو سليمان: لا تنقص حسنات المؤمن، ولا يزاد في سيئات الكافر.
وقيل: إِن كان للكافر فِعل خير، كعتق رقبة، وصدقة، خُفِّف عنه به من عذابه، وإِن ظلمه مسلم، أخذ الله من المسلم، فصار الحق لله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}.
قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسيّر الجبال.
قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو.
وقيل: المعنى واذكر يوم نسيّر الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب؛ كما قال في آية أخرى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].
ثم تكسر فتعود إلى الأرض؛ كما قال: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّافَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} [الواقعة: 5].
وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر {ويوم تُسَيَّر} بتاء مضمومة وفتح الياء.
و{الجبالُ} رفعا على الفعل المجهول.
وقرأ ابن مُحَيْصِن ومجاهد {ويوم تسير الجبال} بفتح التاء مخففًا من سار.
{الجبال} رفعا.
دليل قراءة أبي عمرو {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3].
ودليل قراءة ابن محيصِن {وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} [الطور: 10].
واختار أبو عبيد القراءة الأولى {نسيّر} بالنون لقوله: {وحشرناهم}.
ومعنى {بَارِزَةً} ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان؛ أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها؛ فهي بارزة ظاهرة.
وعلى هذا القول أهل التفسير.
وقيل: {وترى الأرض بارزة} أي برز ما فيها من الكنوز والأموات؛ كما قال: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4] وقال: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وهذا قول عطاء.
{وَحَشَرْنَاهُمْ} أي إلى الموقف.
{فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي لم نترك؛ يقال: غادرت كذا أي تركته.
قال عنترة:
غَادَرْتُه مُتَعَفِّرا أوصالهُ ** والقومُ بين مُجَرَّحٍ ومُجَدَّلِ

أي تركته.
والمغادرة الترك؛ ومنه الغَدْر؛ لأنه ترك الوفاء.
وإنما سمي الغدير من الماء غديرًا لأن الماء ذهب وتركه.
ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها.
يقول: حشرنا بَرّهم وفاجِرَهم وجنّهم وإنسهم.
قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًَّا}.
{صفًّا} نصب على الحال.
قال مقاتل: يعرضون صفًّا بعد صفٍّ كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا؛ لا أنهم صفّ واحد.
وقيل جميعًا؛ كقوله: {ثُمَّ ائتوا صَفًّا} [طه: 64] أي جميعًا.
وقيل قيامًا.
وخرّج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن مَنْدَه في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أَحْضِروا حجتكم ويسّروا جوابًا فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».
قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله.
{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال لهم: لقد جئتمونا حُفاةً عُراة، لا مالَ معكم ولا ولدًا.
وقيل فرادَى؛ دليله قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94].
وقد تقدم.
وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم.
{بَلْ زَعَمْتُمْ} هذا خطاب لمنكري البعث؛ أي زعمتم في الدنيا أن لن تُبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدًا للبعث.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُحشر الناس يوم القيامة حُفاةً عُراة غُرْلًا قلت: يا رسول اللها الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة، الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض» «غُرْلًا» أي غير مختونين.
وقد تقدم في الأنعام بيانه.
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب} {الكتاب} اسم جنس، وفيه وجهان: أحدهما أنها كتب الأعمال في أيدي العباد؛ قاله مُقاتل.
الثاني أنه وضْع الحساب؛ قاله الكَلْبِيّ، فعبّر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة.
والقول الأوّل أظهر؛ ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم شكّ نَعيم عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعْب: وَيْحك يا كعب! حدِّثنا من حديث الآخرة؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة رُفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله قال ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك، إلا أحصاها قال كعب: ثم يدعى المؤمن فيُعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته بادِيات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحبّ الله أن يُريه عمله كلّه حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كلّه أنه مغفور وأنك من أهل الجنة؛ فعند ذلك يُقبِل إلى أصحابه ثم يقول: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْإِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يُلَفّ فيجعل من وراء ظهره ويُلْوَى عنقه؛ فذلك قولُه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات.
وكان الفُضيل بن عِيَاض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه! ضِجوُّا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر.
قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك؛ يعني ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل؛ ذكره الثعلبِيّ.
وحكى الماوَرْدِيّ عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك.
قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رِضًا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم.
أو يُحمل الضحك فيما ذكر الماورديّ على التبسم، وقد قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} [النمل: 19] وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللَّمَمُ كالمسيس والقُبَل، والكبيرة المواقعة والزِّنى.
وقد مضى في النساء بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء، وما اشتكى أحد ظلمًا، فإياكم ومحقَّرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى.
ومعنى {أحصاها} عدّها وأحاط بها؛ وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسُّعًا. {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرًا. وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرًا.
{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي لا يأخذ أحدًا بجرم أحد، ولا يأخذه بما لم يعمله؛ قاله الضحاك.
وقيل: لا ينقص طائعًا من ثوابه ولا يزيد عاصيًا في عقابه. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال: {ويوم تسير الجبال} كقوله: {يوم تمور السماء مورًا وتسير الجبال سيرًا} وقال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب} وقال: {فقل ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا} وقال: {وإذا الجبال سيرت} والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي، وانتصب {ويوم} على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله: {لقد جئتمونا} أي قلنا يوم كذا لقد.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن {نسير} بنون العظمة الجبال بالنصب، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنيًا للمفعول {الجبال} بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال.